الأسرة والابتلاء
الابتلاء سُنة من سنن الله في الأرض، يُميز بواسطته بين العبد الشاكر الحامد له الراضي بقضائه وقدره، المؤمن بحكمة الله وتصرفه في خلقه؛ لأنه يعلم بأنه في الأول والآخر عبد لمولاه يفعل فيه ما يشاء، ولا يستثني الله من سننه الكونية أحدًا، فمن المؤمنين من يصبر ويحتسب الأجر عند ربه، ومنهم من يضيق صدره، قال سبحانه: ﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ﴾ [العنكبوت: 2، 3]، وقال الله تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 155 – 157].
وأكمل الناس إيمانًا أشدهم ابتلاءً، فقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم من أشد الناس بلاءً؟ قال: "أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صُلبًا اشتد به بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتُلي على قدر دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة"؛ أخرجه الإمام أحمد وغيره.
والأسرة كغيرها من المجتمع تعاني من الابتلاء كغياب الزوج، أو مرض الأولاد، أو الفقر، أو المشكلات الزوجية، أو البعد عن الأهل والديار، أو فساد الزوج والولد أو غيرها، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله، حتى يلقى الله وما عليه خطيئة"؛ رواه الترمذي.
وتختلف ردود الأفعال من كل أسرة تجاه ما تبتلى به، فبعضها ينكسر، وربما تسبب بلاؤها في تفرُّقها وتشرذمها، أو في انحراف بعض أفرادها، وغالبًا ما يقع هذا على الأولاد، وربما كان بلاؤها سببًا في ثباتها وصمودها ونجاحها وإنجازها، وتقدم أفرادها على المستوى الإيماني والسلوكي، والمستوى الحياتي أيضًا.
والابتلاء ليس انتقامًا من العباد، ولا محاولة لكسر عزائمهم كما يعتقد البعض، فقد يكون الابتلاء للتكفير عن الذنوب وتطهير النفوس، أو لرفع الدرجات وزيادة الحسنات، وقد يكون للتذكرة بالآخرة؛ يقول الله تعالى: ﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ﴾ [العنكبوت: 2، 3].
وعن أبي سعيد الخدري وأبي هُريرة - رضي الله عنهما - أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما يصيب المؤمن من وصب، ولا نصب، ولا سقم، ولا حزن، حتى الهمُّ يُهَمُّه، إلا كفر به من سيئاته".
لذا ينبغي على كل مسلم مبتلى ألا يكون تصرفه حيال الابتلاء هو التسخط والجزع في حالة الشدة، أو الاختيال والفخر في حالة اليسر والدعة والسعة، بل ينبغي على المبتلى أن يبحث في نفسه وأحواله، ليعلم الأسباب التي عرَّضته لذلك البلاء حتى يدفعها بالتوبة والإنابة وعمل الصالحات، والأهم من ذلك كله الصبر، وأن يعرف حق المعرفة أن كاشف الضر هو الله وحده، ولا أحد غيره يستطيع كشف ضرِّه؛ قال تعالى: ﴿ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [الأنعام: 17].
أسأل الله أن يعظم لنا أجورنا على صبرنا، وأن يرزقنا كلَّ خير، وأن يجعل بيوتنا عامرة بالطاعة والعمل الصالح وحسن الخلق، وأن يُصلح لنا ولكم الذرية، وصلى الله على سيدنا محمد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق